الاثنين، 26 مايو 2014

عتمة كونية في غزة | أزمة الكهرباء


وأخيراً اكتب.


أظنني شعرت بالفعل بالقليل من معاني العزل الانفرادي، أن تكون وحدك في زنزانة متر بمترين دون إضاءة أو أحد حولك، يا ويلنا مما يعيشه الأسرى.
هنا لا كهرباء، عتمة من يميني ومن خلفي ومن تحتي ومن فوقي، ولا أرى أطرافي التي أشعر بها..
ربما وصل الحال لأن أشتم نفسي، ثم أحاول ان أحبها وأفكر كيف يمكنني تقبيل نفسي ؟!
ثم عرجت على أفكار فلسفية عميقة مثل: انعكاس أفكار الساسة على الشارع، وهل يمكن بالفعل إحداث طفرة ما لكي تختصر الحداثة طريقها إلينا، حتى الملابس وولماذا ظهرت وكيف؟ ووما هي الأبعاد الأساسية لظهور الفيزون، وإلام يرمز؟
يبدوا أن حجم الخديعة كبير جدا جدا، لماذا سيضرك شخص من بلدك؟ ماذا يقصد بأن يجعلك تعاني من مشكلة الكهرباء مدة ثمان سنوات، هل هناك حقاً ما يحاولون إلهائنا عنه؟

الحياة بالمطلق ميتة تماماً في العتمة، وكأنك بالضبط داخل العدم، حاولت أن اؤمن بالمعجزات، جربت العد للرقم 90 وبالمقلوب أيضاً لكن لم تعد الكهرباء، جربت اختيار ارقام عشوائية 15، 16، 25، و14، لكن عبثاً، خطرت ببالي فكرة بما أن اللابتوب يحتاج لشحن، سأجرب وصله بالشاحن ربما تحدث المعجزة وتفاجئني الكهرباء بعودتها فور وصل الشاحن، لكن عبثاً أيضاً، ما زلت متمسكة بفكرة أن عودة الكهرباء ستكون قريبة وستكون استثنائية، تسائلت لماذا لا يستجيب لي الله؟ و احدق بالعتمة قليلة ثم اعود للعد حتى بدأت أسمع سورة مريم.

سورتي المفضلة، لا أدري لم بدأت بذكر زكريا عليه السلام وهي سورة مريم، تأكدت لي النظرية القائلة بأن الإيمان والعمق الديني متعلق بالرخاء الاقتصادي والمكاني والنفسي، لم أستطع التركيز دون كهرباء وبهذا الحال.

الذاكرة هي المهرب والملاذ، حين تبدأ تقيم صحتك العقلية ولا ترى إلا العتمة، الكثيريون يفكرون بأشياء مخيفة بالعتمة، إحدى جاراتي يخيل إليها أنها ترى ملك الموت في العتمة، لذا لا تستغني عن الشمعة أبداً.
لا مهرب من العتمة، الصلاة حل رائع في كل الأوقات، كان الله أمامي ووجدت كل الإجابات، لكن عبثاً هناك شيء يلفظ أنفاسه الأخيرة داخل القفص الصدري.
حاولت أن افكر كيف أحفظ افكاري من الضياع قبل عودة الكهرباء، جربت أن أطوق رأسي بذراعاي خوف أن تهرب الأفكار، احتفظت بها لخمس دقائق فقط، جربت بعدها أن أرددها بعقلي أكثر من مرة بشكل متسلسل لكي أكتب، ولكن في متاهة العتمة اختلط الترتيب، وتاهت واحدة وانفرطت المسبحة، إذن بقي حل أخير هو الكتابة، ووجدت الورقة وتناولت القلم لأكتب على ضوء الهاتف الذي سيقفل من تلقاء نفسه بعد قليل لأن البطارية شبه فارغة، وحين قالت اختي "ياااااارب!!!" لحظتها عادت الكهرباء !

بعض مني لا يرد أن أنشر ما كتبت، لكن البعض الأخر يريد، الأمر مؤلم حقاً ويجب بأي شكل أن يوجد حل قريب.

وحين أفكر بكل الأزمات والحصارات التي تطوق نفس المواطن الغزي وعقله، والحروب الماضية، والحملات العسكرية المتلاحقة، لا أظن الغزي مؤهل نفسياً ليكون إنساناً حسب النماذج الموجودة في دول العالم المتقدم، ربما الغزي فقد نفسه وإنسانيته، والروح ربما استشهدت في إحدى الاجتياحات أو الغارات، أو ذات انقطاع كهرباء. 

لا أحد  صحيح ولا أحد برئ الجميع يجرم في حق نفسه والآخرين، وكلنا مثل الآخرين، ننتظر معجزة، ربما كانت المعجزة أن يخسف الله الأرض بنا فنحن لم نعد نستطيع الحياة بشكل اعتيادي كباقي البشر، ربما فكرة السفر في العطلة تعد لدى الغزي ترف مبالغ وإسراف في متع الحياة، ينبغي أن تتوب عن التفكير فيه، حتى الاقتصاد والتشاؤم والقلق الذي يسكن بين العضلات الملساء في الأذرع والظهر يجعلك لا تعرف ما تعني الراحة. طيب هل فكر أحد بعمل حملة مساج مجاناً لكل غزي؟ أو جلسات يوغا ما بعد انقطاع الكهرباء وما بعد كل أزمة.
ربما حقاً يحب الله غزة، ليبتلينا بهذا الكم من المصائب المتلاحقة والصبر الذي لا ينتهي، لكي نكون أكثر حكمة ونضجة من باقي شعوب الأرض، ربما !

ما الفائدة من نشر ما تكتب حقاً؟ الأفعال لا تحتاج أقوال لتبريرها، هذا يوحي لي بضعف موقفي ويوجعني، لكنني سأنشر ما كتبت ..

الأربعاء، 21 مايو 2014

لا تخافوا من جواد 2


ضجيج شديد يتناهى لسمع الحارس من داخل مصنع السكاكر، تناول المصباح ومضى نحو الداخل بحذر، الحقيقة أنه في موقع الحراسة الليلية منذ خمسة عشر عاماً ولم يقتحم أحد المكان أو تصدر هذه الجلبة العالية. حتى الأضواء مطفئة، لكن عبوات المواد الخام والسكر ملقاة على الأرض، رأى شيء أبيض وسط الظلام، يقال أن العين البشرية قد تعكس طيف مضيء في حال وجود ضوء قليل جداً في الظلام، بعكس القطط وما سواها التي ترى جيداً فهي تحتاج ضوء خافت لترى الأشياء جيداً، أصبح في قلب المشغل تماماً ما يعني أن الظلام يحيطه من كافة الجهات، حتى ضوء القمر غاب تلك الليلة، ما زال الطيف ماثلاً أمامه، بل إنه يكبر أكثر فأكثر، لو كان انسان فهذا انسان يقترب.
ضحكة مسموعة، كان الحارس يحادث نفسه: منذ متى وأنت يا وائل تصدق الأشباح والخرافات المستهلكة؟ (ضحك مرة أخرى)، ما زال الطيف موجود لكن كأنه لا يتحرك، "- هل اخفته الآن؟"، "- ما زلت يا وائل تفكر بالأشباح!" (ضحكة أخرى)، كيف له أن يميز أنه يحلم أو في الواقع، أتبع الصمت صوت صراخ طفل غاضب:" أين الحلوى ذات الكيس الأحمر؟ أين الشوكلاته المستديرة؟ أريد المارشمالو المخطط بالأخضر.." أجاب الحارس قبل أن يتدارك أن لا أحد هنا سواه والشبح: "هذه الحلوى توقفنا عن صنعها منذ سنوات طويلة، الآن توجد حلوة كثيرة جديدة"، يبدو أن جواب الحارس لم يعجب جواد فأسقط آلة جدل المارشمالو، أصدر الكثير من الجلبة.
لم يلحق بالحارس حين توجه لآخر الرواق مضيئاً المصنع بالكامل، المكان محطم إذن الأمر حقيقي، ترى ما مصدر ذلك الصوت الذي سمع في الظلام، لا بد أن يصوّر المكان بهاتفه النقال، ويحاول أن يرتبه قدر الإمكان، بعض الآلات تحمل كسور خفيفة كان يظنها بجودة ممتازة، متنقلاً بين الممرات، الأرفف، والآلات. وسط جلبة تحريك الأشياء من مكان لآخر هناك صوت بكاء خافت! "هل هناك أحد؟"، هذي المرة طفل متسخ خائف في الزاوية، لديه ألف سؤال في عينيه؟ عاد من الغرفة الجانبية حاملاً بعض الحلوى والشوكلاته، تناول الشوكلاته فبدا عليه المرض، تقيأ معها مادة شبيهة بالنباتات الخضراء، جفل بنظره أمام الرجل، واختفى بلمح البصر.
منذ قدومه تنام الخالة نائلة في بيتهم، نومها ليلاً خفيف جداً تتوقع قدومه بأي لحظة، يكاد يفتك بها الفضول خوف أن يقوم بإيذاء أو ترويع أحد ما، هذه المرة حضر جواد باكراً قبيل الفجر، "ما بك تبكي يا بني؟ هل أصابك مكروه؟" ناولته بعض الماء، لكن يبدو أنه ابتلع بحراً من الطحالب، حاولت أن تدق ظهره برفق كي تساعد، لكن كأنها كانت تمسك نسيج اسفنجي، ارتابت وخافت قليلا، حينها نظر جواد إليها مستطلعاً سر إجفالها عنها، ثم غزت عينيه غربة خانقة وألقى نفسها في حضن الخالة، كان نحيبه مصحوب بأسئلة عن واقعه الغريب، ما زال طفلاً.
أخذت الخالة تهدهده وتخفف عنه وتعده بالإجابة وتوضيح كل شيء، لا تدري ما كانت تلمس من جسد الطفل، لا هو الجسد كمثلنا، ولا هي العظام موجودة، وهو نائم في حضنها لم تعد خائفة، فالأغرب من كيانه الغريب هو وجوده هنا.
- يا خالة! ما قصة الملاهي سمعت الكثيرين يتكلمون عنها؟
- قبل أعوام كثيرة، انتهى اخوتك محمد، باسل، مهند، ولينا من امتحاناتهم، وذهبتم جميعاً مع أمكم للملاهي ...
- اااه، هل تقصدين حين رفضت أن تأخذني معها في الأفعوانية لأنني أصغر من المطلوب، تذكرت نعم
- إن كنت ترغب بالمزيد من الماء الدافئ سأحضر لك المزيد؟
- أريدكِ أن تكملي حديثك، لست جائعاً. "بينما ينظر للحائط بتشتت"
- لقد غرقت في الماء حينها، ولم تستيقظ، كما ابتلعت الكثير من طحالب البحر والنباتات السامة.
- ماذا تقولين!! انتم تركتموني أغرق، ولم توقظوني بعدها؟! ثم عرفت أخيراً سبب الأشياء المقرفة العالقة في بطني وحلقي.
- أنا لم أكمل بعد....
- لم أفهم قصدك يا خالة؟ أصلاً إلى أين يذهب الذين يموتون؟ ربما امي ما زالت موجودة مثلي
...
انقضت ثلاثة شهور على وجود جواد بينهم، كثيراً ما كان الناس يشاهدونه بالقبعة الصوفية الطويلة، والإزار الواسع، يقضي وقته معها في السوق كبقية الأطفال. ويبدوا أنه في القريب العاجل لن يكون ذلك الغريب الذي جاء من صندوق البحر، ربما!
تتوالى الحوادث ولقاءات الناس به، وكلٌ يحدث بما حصل، صمت الطفل غريب وسلوكه تغير فقد أصبح فجأة جواد العاقل بعكس ما تتوقع من طفل صغير.
الخالة هي أقرب الأشخاص لهذا الصغير، أكثر ما يحبه فيها هو طبخها المميز ووصفاتها التي توقف عن عدها منذ زمن، جواد أصبح يستخدم قواه الخارقة في الكثير من الأشياء حتى أن بعض الأشياء الطريفة التي تصادفه يسر بها للخالة، مثل إخفاءه لدمى الصغيرات في الحي، حتى بدأن يشككن بفقدانهن عقولهن، وأحياناً أخرى كانت الخالة تطلب منه فعل بعض الأشياء التي لا يستطيع سواه أن يفعلها، مثلا أن يراقب وهو متخفٍ أين تذهب جارتها أم تحسين، وتبين أنها كانت تكذب فلم تذهب للسوق لكن إلى شيخ يقال أنه يعالج بالقرآن لأجل ابنتها. أما جواد فلم يكن يستطيع ان يرفض لها طلباً.
في صبيحة أحد أيام الآحاد، ذهب والخالة وعائلته جميعاً للبحر، لم يحتج بذلة النجاة ليسبح مع أخوته، مضت الساعات سريعاً، لا أجمل من التراشق بالماء مرة أخرى بصحبة العائلة، أخته أعدت لهم بعض الأنواع من المعجنات والحلويات، بقي والده متربعاً على قطعة صوفية كانت رداءً لخروف يوماً ما، بجانبه الخالة، يتحدثان بأمور سياسية، وما آلت إليه الاسعار أخيراً وإلى أين ارتفعت، بالإضافة لسؤالهم لينا، لِمَ لَم تحضر أطفالها لهذي النزهة، لكنهم ذهبوا مع أبيهم لزيارة بيت جدهم.
بقية أيام الأسبوع التي تلت هذي الرحلة، لم يتوقف جواد عن الحديث عن ما أمتعه وما كان أجمل جزء من الرحلة، يوم الجمعة أسرت الخالة لجواد أنها أعدت له طعاماً مختلفاً عن باقي العائلة، ما جعله يصبر لما بعد الصلاة، وما بعد الغذاء، قدمت له طبق من السمك المتبل، أكل بنهم حتى أتى على الوجبة بالكامل، وانشغل مع الخالة بعدها بتعلم كيفية تنظيف يديه من السمك بحيث لا يبقي على الرائحة فيها.
الحارس في حديقة المدينة انهمك بتنظيف الأوساخ الخضراء التي ظهرت في الممر الخلفي، في عمل كهذا يمكنك أن تتوقع حدوث أي شيء لا سيما أن المكان يعج بالناس من كل الأصناف والأعمار، وهو الوحيد المسؤول عن نظافة هذا المكان، خطرت في باله مرة أن يقيم دورة تثقيفية مجانية للمواطنين، لتعليم آداب التعامل مع القمامة لكن يا حسرته على هذي المدينة التي يحصل كل شيء فيها بصعوبة كما يقول " بطلوع الروح".
التأخير على البيت على غير العادة قد يصيب الخالة بالجنون، لكن هذي المرة والده هو من جن وخرج باحثاً عنه، وعاد به أخيراً، بقي في غرفته متقوقعاً في الزاوية، بدأ بالكلام حين دخلت الخالة بهدوء ترتب الثياب في المكان، واهناً جواد "بقيت طول اليوم أخرج شيئاً غريباً من معدتي، كان يهز معدتي وكأنه يلقيها من سطح بناية عالية لتتحطم على الأرض" أطرقت نحوه بصمت "حتى أنني يا خالتي، وضعت شيئاً من القطع الخضراء في حوض السمك بحديقة المدينة، فطفت كلها على السطح ميتة!!" ردت من فورها :"ماذا تقصد ؟؟" أكد لها أنه لا يقصد شيء، وخرج تلك الليلة حين تأكد له أن الجميع نائمون.
لماذا قد تدس بعض السم في حشوة السمك؟ لماذا قد ترغب بالتخلص منّي؟ والصمت المطبق رد عليه فقط.
استيقظت الخالة ليلاً تشعر بوجود حركة في الممر، خرجت فتجمدت فبهتت، هُيء لها أن شبح أختها يقف في آخر الممر، بدت ملامحها واضحة، عابسة، غاضبة، عاتبة، وكأن سؤالاً يدور "لم لم ترعي الأمانة؟"
فركت عينيها جيداً، وأضاءت المصباح، رغم غرابة المشهد قبل قليل، بدا كل شيء كما كان، وقد غالبها النعاس فعادت لفراشها متثاقلة.
كان جواد يجرب السرعات الجنونية التي قد يبلغها طائراً فوق الأرض بأمتارٍ قليلة، حركات عنيفة شهدها الشاطئ من طلوع الفجر وحتى الصباح، أما في البيت نهضت الخالة فزعة، وضعت شال وجدته بالجوار على رأسها، وهرعت خارجاً صعدت أول سيارة إلى الميناء، فات الأوان وقفت مع المتفرجين هناك.
جواد وصل إلى أقصى حد سمحت به قوته تلك اللحظة حتى خارت قواه في عرض البحر، استلقى متعباً فوق الماء.
في الظهيرة لم تسفر عمليات بحث الصيادين إلى عن بعض أسماك القرش تدور حول بقعة دم كبيرة طافية على سطح الماء، وكأنها ترقص فرحة حول فريسة أو شيء ما.

إلى هنا يستريح جواد وقلمي وتطوى الورقة.