بعض آيات القرآن تجاوزت كونها آيات فيها النصح والإرشاد أو النهي أو التوجيه. منذ الألفين وبعد توالي الأحداث الصعبة، أصبحت المشاكل والمخاوف أكثر، كل يومٍ شهيد، ومكبرات الصوت كثيرة، كل يوم أسماء شهداء مختلفين، اجتياح جديد، ودعوات لمسيرات مختلفة الغايات. بعد كل حدث يهز القلوب نرى السيارات ذات الأصوات المرتفعة تجول الشوارع وتردد نفس الآية بصوت القارئ أحمد العجمي. فكرة استمداد الطاقة من الله عظيمة، يعني نحن مضطهدون محتلون، فلا خوف علينا ولا حزن، ثم أننا لسنا وحدنا من يمر بهذي الأزمة، في هذي النقطة تسرية كبيرة. وإن كانت تساهم في تضخيم قضيتنا في نظرنا وفي تصورنا للعالم الخارجي، بعضنا يخرج ويصدم من أننا كمن يرقص في العتمة، حزين، صحيح.
إن كنتم مؤمنين، يعني لا حزن إن صدقت بها تمامًا. تكررت الآية
على مسامعنا كثيرًا، وارتبطت بأحداث مفصلية، قيلت في استشهاد أشخاص نعرفهم، أو في هدم
بيوتنا أو أحداث أخرى قريبة، كل مرة تعاد أشعر بأنني احتجت لأن أسمعها مرة أخرى،
فتأتي جنازة أخرى وتعاد الآية. في مرة فكرت وتساءلت إن كان القوم الآخرين الذين
مسهم قرح هم نفسهم الأعداء حين تصيبهم صواريخنا البسيطة، ذلك كان بعد رؤية جندي في قمرة الجرافة الضخمة، يضحك وهو يقتلع شجرة
الظل خاصتنا، يا إلهي، إنه إنسان مثلنا، يشبه أشخاص أعرفهم. لماذا كنت أتخيل أن
العدو يأتي بصورة وحش، ربما له عين ثالثة أو قرون أو لون بعيد عن ألوان البشرة
المتعارف عليها. كنت صغيرة، لا بأس.
الجنازة التالية، ربما من أصابهم القرح ليسوا الأعداء ولكن أناس
يعيشون في بلد آخر، كانت تتوالى الأخبار عن أفغانستان وباكستان والشيشان، المساكين
ربما سيصلهم دعاءنا. ثم الاجتياح الذي بعده، يقول: "وأنتم الأعلون"
لماذا ؟ لم نفعل شيئًا كبيرًا، كل ما فعلناه هو الصبر، وهو ليس شيئًا كبيرًا برأيي
وإن كان صعبًا للغاية، خصوصًا عندما تمني نفسك بأن النهاية اقتربت وأننا سنرتاح
قريبًا، لماذا نبقى؟ أحيانًا لا أعرف، تنتابك رعشة بالقلب حين تتذكر قول المتنبي
"كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا".
رأيت منشور في فيسبوك يعلق تحته الأشخاص بحقيقة علمية محزنة،
أحدهم قال أن بعض الأشخاص لا يملكون صوتًا داخليًا. محزن فعلًا، طيب كيف يترجم
عقلهم العواطف والأحدث، كيف يترجمون ذواتهم واحتياجاتهم، أتخيله أشبه بالبرمجة.
المهم، بعدها استيقظت على ضجيج داخلي، يشبه وجود أطفال يعبثون بألعابهم أو عصافير
مزعجة أو حتى نقاش محتدم بين نساء الحي في وقت القيلولة. الصوت كان مرتفع، "هااا،
متى تموتي وتريحينا؟" وصوت آخر أكثر حكمة "ألا تعتقدين أنه حان
الوقت؟" مشيت بهدوء نحو النافذة، أوبس أنا قريبة من الأرض، لا بأس ربما مرة
أخرى، أحتاج حوالي نصف ساعة لأستيقظ تمامًا وتختفي الأصوات، قبل أن تختفي كنت أضحك
ساخرة "مهلًا، ما الذي حصل لأسمع كل هذا الاحتجاج؟"، لا جواب مع أني كنت
أشعر بالاختناق. توجهت نحو التلفاز، وهو يشتغل الآن على مسلسل
"الأصدقاء" رفيق الأوقات كلها، مفروض أن يجعلني أتحسن. لم أتحسن. راجعت
قائمة أحلام الليلة، وكان هنالك سببًا مقنعًا، رأيت فيما يرى النائم أنني في غزة
أخيرًا، والفيفا قررت تنظيم كأس العالم 2022 هناك، كنت أتجول قرب دوار الدفاع
المدني، متجهة إلى شارع المحلات، الاستاد الكبير كان محل مسجد الأبرار، ولكم أن
تتخيلوا الازدحام، أشخاص من كل العالم هناك، بالتزامن مع سوق السبت. العربات التي
تجرها الحمير والأحصنة كانت تزاحم الناس أيضًا، كنت مبتهجة واتفقت مع عدة أشخاص أن
نحضر عدة فعاليات سويًا، هذا حدث كبير سنتشرف باستضافته. على وشك الانحراف يسارًا
تجاه شارع المحلات أنادي شخص نسيت من يكون، بينما أنظر للخلف وأنادي، كانت طائرة
تقترب دونما صوت بهدوء للأسفل، ترتفع عموديًا فوق تقاطع الشوارع المؤدي إلى السوق
الغربي ودوار العودة، في غمرة الحماس لم أتوقع ما سيحصل تاليًا. سيناريو مشابه لما
حصل مع مسيرة السلطان عام 2005، بدأت الصواريخ تنهال فوق الناس، قلت لنفسي هذه
فعالية عالمية الأنظار كلها تتجه إلى هنا، لا بد أن يتوقف هذا حالًا أو أن يوقفه أحد.
احترق كل شيء. حتى أنني نسيت من كنت أنتظر وأين كنت سأذهب، انتهى كل شيء فقط. ثم
استيقظت.
هناك تطبيق يصنع الملصقات لاستخدامها في واتساب، أتخيل أحيانًا
أن تلك الأحداث تحولت إلى ملصقات "ستيكرز"، في كل مشهد أرى ذهني يضع
ملصق ما على الصورة، في مشهد لممر أخضر ومبانٍ محيطة، في الوسط خلف الأشجار يطبع
الذهن صورة لرأس دبابة متحرك يبحث عن هدف. ثم في الممر المفضي إلى المترو، حيث
البراح والاتساع والحداثة، تتناثر الجثث قادمة من اليوم الأول من أغسطس عام 2014،
تتناثر بشكل فني، بعضها سقط لأن الحواف مرتفعة وعالية، أمشي سريعًا هربًا من تلك
الصور، إلى الدرج الكهربائي نزولًا للأسفل، ثم أكمل الهرب من سائقي التكاسي الذي
يبحثون عن راكب بالإلحاح ومن الصور المتكومة في الداخل.