الأربعاء، 6 سبتمبر 2017

مشكلتي مع المقبرة


مشكلتي مع المقبرة
تسكن المقبرة رفات كثير من الأحبة، مثلًا تتجاور قبور جدتي خالي وجدي، في أول مرة زيارة لها ورفات خالي فيها، قررت الامتناع عن تلاوة دعاء المقبرة وتلاوة قصيدة للسهروردي بدلا منه، تدعى ابدا تحن إليكم الأرواح، انتابتني نوبة بكاء مريعة، ولحسن الحظ ذهبت عندما فرغ المكان من الأقارب.
لم أعتد حضور حفلات الزفاف ولا بيوت العزاء، عندما توفيت جدتي حزنت بشكل فظيع ولكن أجبرت على حضور بيت العزاء، وتم القبض عليّ في نوبة بكاء اختبئت بعدها في المطبخ، وحين توفي خالي بقيت في البيت لوحدي، سمعت أغانٍ أحبها، نمت وصحوت، طهوت وجبة طعام تكفي عشرين شخصًا ولم يأكل أحد منها، تخيلته أمامي وشتمته، بأي حق يموت؟ لا أظن أنّي كنت جادة وقتها لأنني بعد ثلاث سنوات فهمت ما يعني أن لا يوجد خالي صديقي بعد اليوم، ولا داعي للحديث عن لحظة اكتشاف الحقيقة.
لديّ اخوال أكبر وأصغر منه، لكنه كان صديقي، دائما كنا نتشاجر ونتصالح، أول شجار يعيه عقلي عندما كنت بعمر الخامسة، كان يهوى قرص خدودي هو طالب الإعدادية، بكيت وصرخت بصوتٍ عالٍ، أسرعت إليّ جدتي، شعرت بسعادة بالغة بينما دموعي تنهمر لأنني أجدت التمثيلية وسيعاقب الآن، لحقه جدي على الفور بالعصاة ورضيت مع محاولات جدتي. لقد تعلم قيادة السيارة في سن مبكرة، وباكرًا التحق في المقاومة، كان يغيب كثيرا عن البيت، الحقيقة انه كان المثل الأعلى لكل الصغار ليس لي فقط، كان مقرب من الكل بدرجة تشعرني بالغيرة، الضيوف والمقيمين في البيت اختاروه موضوعا لحديثهم الذي لا ينقطع، أخباره شحيحة وكل معلومة بسيطة يمكن أن ينسجوا منها قصصًا، مع أننا كنا نتواصل ونتحدث في شؤون الحياة والمبادئ التي نكذب على أنفسنا لنبرر تخطيها، عبر الهوتميل بدايةً ووسائل المحادثة، في أول حرب كان يظهر لدقائق يطمئن علينا بعد نزوحنا إلى بيت جدي، كان يأتي فترة الفجر يسلم على خال آخر يقيم في البيت ثم يختفي. أذكر أنني كنت أنام بعد التلصص على زياراته القصيرة، وهذا ما كلفني الحصول علي أسوأ الفراش وأصلبه.
في الغربة زادت حساسيته، ووجدت التواصل الإفتراضي مجزوء جدًا، المحادثات المكررة وخلاف بسيط جعلني لا أبادر للصلح حتى، بقي هذا الحال لمدة إلى أن وصلنا الحرب الأخيرة.
من الواضح انه كان يحترق ويتعذب هناك، اشتقنا له بيننا فعلًا لكن كنت سعيدة لأننا لن نخاف عليه هذي المرة، وكان من الواضح بعد الحرب أنه يحاول التواصل من جديد، انشغلت في محاضرات متعلقة بالفلك وقررت أن بعد الغد سيكون يوم تواصلي معه، سيكون يوماً سعيداً.
منذ بداية اليوم كان رتيبًا بشكل خانق، كنت أنتظر عودة الكهرباء عصرًا، ثم بدأت الاخبار تهل، أنباء عن إصابة، ليست إصابة لقد فارق الحياة، لا لم يفارق الحياة اليوم بل منذ يومين...!
في المقبرة بكيت كثيراً، ووصلت القبر يا للحظ، وأين هم؟ لا أحد هنا، لا أحد. هل هم بالأعلى؟ أين رائحة جدتي التي تشبه السكر والقمح واللبن الطازج مجتمعات؟ وخالي؟ لا أثر لخفة الظل تلك، المكان بارد جداً، دائماً كان يغضب من السخرية عليه عند نطق حرف الراء، لديه قاموس كامل لكلمات بدون حرف الراء، شتمته مرة أخرى، فلم يصفعني ويضحك ثم يختفي، ساكت جدًا، وهذا جدي الذي لحقه سريعا حزينًا، غير غاضب من حركات الولدنة، أين أنتم يا أوغاد ؟ اشتقت لكم والله، وسأحسن التصرف هذي المرة.
خرجت بقناعة تامة، أن المقبرة لبقايا ليست ذات قيمة، لأني أعرفهم بقلبي. جدتي مثلًا كنت أشعر بوجودها وأستطيع تخمين إذا كانت تحلب الأبقار أو في بيتها تجدل شعرها، تحسست القبر من كل الجهات، لا شيئ مطلقاً، قلبي لم يهتز قيد أنملة، إذن هم جميعاً في مكان آخر، وليس لي إلا ان أحترم القبر بكل الأحوال.
عصرت ذاكرتي لأعرف أين ذهبوا، أستريد ليندجرين تقول إنهم يذهبون إلى نانجيالا يعيشون بسعادة فوق، في وادي الكرز أو وادي الوردة البرية، وتنغل قتله جوناثان والأبطال، غالباً خالي كان معهم في المعركة الأخيرة، جدتي هي ملكة الحمائم ليست صوفيا، والعجوز ماثيوس هو جدي، إليكم الدليل، بعد وفاة جدتي مباشرة جاءت حمامة بيضاء اقامت فوق باب غرفتها وبنت عشًا أيضًا، ما تفسيركم؟ كل عجائز المخيم قلن أنها روحها حضرت لتطمئن وتبقى معنا.
ثم جمعت قطعة من كل منهم، شال جدتي، قداحة خالي، وكوفية جدي، لابد أنها تحمل شيئاً منهم، ثم نحن لطالما تصافحنا وتحدثنا أكيد شيئ منهم هنا.


ملاحظة: أتجاهل تماما احتمال كون الحمائم التي كانت تربيها في الحوش افتقدت من يطعمها وجاءت تبحث عنها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق