هذي المرة قررت الجلوس مع فتاة تشبهني تمامًا، حتى لم أعدل ملابسها، إلا أنها باردة جدًا، مجرد مستمعة ولا أذكر أني رأيتها ترمش عيناها أثناء الحديث المستفيض، وحدنا في هذا الفراغ، ظلام من كل الجهات ونحن.
سيارات بعيدة تحدث ضجة، وصوت بصاق عميق مقرف، يبدو من رجل خمسيني يسير بالأسفل، أتمنى يومًا أن يفرض قانون لمنع البصاق في الأماكن العامة، أشعر بقرف يهزني من الأعماق عند رؤية هذي المشاهد، الأفظع أن يكون تعبيرًا عن الاستنكار، خصوصًا إذا مرت فتاة متبرجة أو متعطرة.
بدأ الأمر عندما سرنا سويًا لمحل الحلوى، لم يبدأ في الحقيقة، ولكن اكتشفت الأمر فقط، كنت اعتبره طقسًا طبيعيًا عاديًا، وأمر ينبغي أن يفعله الجميع، واحد زائد واحد يساوي اثنان، الواحد الأول يمكن أن يكون أحمر والثاني أزرق وإثنان أرجواني، نعم هذا ما أقصده، هذا ملخص كل الثرثرة التي سأتسبب بها بالأسفل.
أتصور أن المورفين أحد أسباب سعادتي في هذه الدنيا، أغلب الوقت أشعر براحة عدمية لطيفة، أستطيع تجاهل كل الأشياء، أهرب من الحلول الجذرية في أكثر الأوقات، لا أجدها ذات جدوى بالمرة، ما الفائدة من إنفاق الكثير وأنت ستموت في أي لحظة، عجبي من شخص أنفق الآلاف على إصلاح أسنانه ثم مات في حادث طرق وهو خارج من عند الطبيب، أنظر إلى المسألة على أنها إسراف، كان يمكن أن يتوقف موته في أي لحظة فيستغل تلك الأموال المهدورة بشكل أفضل.
قرأت كثيرًا عن أعراض تعاطي الماريجوانا، هذا جعلني أظن أنهم يتلفون تلك المواد المضبوطة بجانب البيت، دائمًا أضحك بشكل هستيري، لدي تركيز ضعيف جدًا في كل الأمور، قد أوافقك على كل شيء وأنا لم أفهم شيء مما قلت، وقد أوافق على أمرين متناقضين، بحيث يعجبني الثاني ناسية تمامًا أن الأول مر على خاطري أصلًا، اختلفت مع صديقات مرة على اليوم، كنت مصرة أنه الإثنين وهن يقلن السبت، إحداهن كانت تجادلني بشكل منطقي والأخرى مستغربة، عدت وتأكدت من الأجندة، أو حتى حين يقال لي مرحبًا فأقول الحمدلله بخير، هذي أخشى منها جدًا وأركز بشكل كبير حتى لا أخطئ، أما في الجامعة فقد طلب مني أحد المحاضرين الأجلاء أن أحضر نظارته من السيارة ملقيًا إليّ بالمفتاح، نزلت بكل ثقة لأفاجأ بأنني لا أعرف سيارته حتى، كنت أعي تمامًا أن موقف شبيه تكرر لثلاث مرات أمام نفس المحاضرين وخشيت من ردة فعل معينة، أنا لست مجنونة والله، عقلي مشغول بأمور صعبة جدًا.
نعم أستطيع أن أضحك من أي نكتة، خصوصًا تلك التي أتلوها على نفسي، وأبكي بشدة عند المرور بمتنزه برشلونة، أراني عجوز هرمة مريضة هجرها أولادها، وفي طريق العودة عند الكراج الشرقي أرى نفسي رجل أربعيني طويل ونحيل الوجه مكفهرّ تتراكم عليه من الديون حوالي ربع مليون دولار، لذلك يمشي محنيّ طوال الوقت، كل الأمور البائسة التي أفكر بها في تلك المنطقة تجعلني أكره نفسي حين أصل البيت، لأن عند الكراج تحديداً يقابلني دائماً جارنا السابق أبو فادي، يرسل إشارات لطيفة، تحية، سلام، ابتسامة مع حوار قصير، ولا أنتبه لكونه هو جارنا ولفتته اللطيفة إلا بعد عبور الشارع، ألتفت للوراء فأراه منشغلًا في عبوس ما، يتفقد كراسي السيارة أو ينتظر الركاب، كل مرة أفكر بالعودة ومحاولة تبرير بحجة هموم الحياة، والتفكير، الانشغال، أخبار غير سارة، لكن لا يعقل أن يحدث هذا كل مرة.
حين كنا نسير نحو محل الحلوى، كنت أغذ الخطى لكي أحرق من السعرات من سأكتسب أضعافه بعد قليل، ثمة سعادة تجعلك تسير على الغيم، صمدت مدة كافية وامتنعت عنها، الممتنعون عن السجائر ليسوا أكثر فخرًا مني، هناك نوع من الكيمياء بيني وبين أخي الذي خرج برفقتي يجعلنا لا نتحرج عن فعل أي حماقة في الشارع، حين كان يقوم بتمثيل حركات وأصوات وجدنا ولدًا يقلده بجانبنا، لا أدري إن كانت صدفة، في طريقنا سمعنا صوت أذان العصر والمحل يفتح العصر يعني سنكون أول الزوار، وصلنا والكنافة غر جاهزة بعد، دعانا الشيخ للانتظار في الداخل، التقطنا الصور وتفاجأت لوحدي بجاهزية المكان لاستقبال عدد جيد من الزوار، مع التكييف والتهوية، لاينقصه شيء.
أكثر الأمور طرافة هي أن الشيخ المضياف أحضر الكنافة في الساعه 4:49م وحين عاد ليثبت جالون الماء في الثلاجة القريبة، كانت الساعة 4:51م وكانت الطاولة نظيفة تمامًا حتى الطبق في سلة النفايات.
في البداية استغرب أخي، لماذا؟ لأنك سترى أشخاص مختلفين عمّن رأيتهم وأنت قادم، لم يقتنع وأنا ألقيت بهذا التبرير بشكل عشوائي أصلًا، حين مشينا أصر أن نعود من طريق آخر، لماذا؟ لأننا سنرى أشخاص مختلفين، واستمر في التحديق في وجوه المارة في الطريق المختلف ويعد كم وجهًا مختلفًا رأى اليوم، أعجبته الفكرة ومن عينيه كان واضحًا أنه يقلبها في رأسه.
حين جلست مع تلك الفتاة سألتها، لماذا لا أطيق تكرار أي شيء؟ استمرت بالتحديق البارد عديم المعنى، تحضني على الكلام، وهنا أنهيه.