لا تخافوا من جواد
هذي المرة كانت وجهة العائلة إلى الملاهي المجاور للبحر، الأبناء
الثلاثة والبنت يستعدون للابتهاج بعد اسبوعين صعبين من امتحانات الابتدائية،
والصغير جواد الذي لم يبلغ الرابعة في حضن أمه، بدأوا جولة تفحصية لاختيار اللعبة
المناسبة، اختاروا أخيراً الأفعوانية ستصعد الأم مع البنت وأخوتها وتترك جواد
لتهتم به فتاة تنتظر دورها بعد أن ينزلوا من اللعبة.
بدأت لينا تشعر بالدوار، محمد لا يريدها أن تتوقف والأم تحاول
تهدئتهم، غفلت الفتاة بالأسفل عن جواد، تدحرج ماشياً إلى الحافة الصغيرة التي تفصل
الملاهي عن البحر، تملؤها الطحالب والنباتات التي تنمو على الأسطح الرطبة، حاول
بجهد أن يقف على الحافة –حافة العالم- انزلقت قدم جواد الصغير، الماء تحته ليس
عميقاً بذلك القدر الذي يغرق شخصاً بالغ، لكن طول الطفل لم يتجاوز المتر الواحد،
أخذ الماء يحاول اختراق حصون الطفل والتسلل لداخل رئتيه، الهواء يخرج من الأماكن
بسهولة، ألا يشعر بمحنة الطفل ويفصل الماء عنه؟! جواد يخب ويعب الماء يحاول
الامساك بالصخرة تنزلق يداه وتعلق بها الطحالب والجزيئات الخضراء، اختار أن يضع
يده على فمه ليمنع دخول الماء ويحاول التنفس بصعوبة، تراخت عضلات الصغير ويبدوا أنه
استسلم أخيراً حين تنبه أحد الزوار له وانتشله من الماء.
نزل الأطفال بعد عدة دورات كرروها كثيراً، الزائر النحيل كان يمسك
الطفل المتعب يبحث عن أهله، هرعت إليه أمه بحثت مطولاً مع الزائر عن المسعفين
الذين يعملون في الملاهي، تأخروا كثيراً، تنفس الطفل ليس سليماً أبداً اختلط هواء
امه بهوائه كانت الطحالب والفطريات تعلق بالهواء بسهولة وتزعج التنفس، الممرض لم
يكن يعلم ما يفعل ناول الطفل منوم لحين نقله للمشفى أو وصول المساعدة، اتصلت بالأب
بالكاد فهم وانتابه الذعر من سعالها الموصول.
بعد نصف ساعة وصل الأب للمكان، كانت معه اخت زوجته نائلة أخذت الأطفال
الأربعة، جاء الطبيب فوجد أنه من العبث إيقاظ الطفل فالرئتين تآكلتا وليس من
الهيّن تنظيفها من الفطريات التي تنتشر بسرعة بواسطة الأبواغ المليئة بالبذور
الصغيرة التي تحب الالتصاق، ولا أسهل من الالتصاق بغشاء الرئتين، كان من الممكن
علاج الأم لكنها رفضت مالت نحو طفلها الساجي على الطاولة الباردة واستمرت بالبكاء
المصحوب بسعال، كاد الأب أن يصاب بالجنون لم يتوقع في أسوأ الحالات أن يحدث مكروه
للصغير والأم معاً، في المكان القريب كان يوجد صندوق خشبي كبير وضعت الأم فيه
طفلها الصغير، وأرادت بإصرار عجيب أن تضع طفلها فيه فوق المصطبة التي تتوسط
الشاطئ تحت الماء!
جاء الزورق السريع، ركبت الأم واختها والأب، معهم الصندوق، وضعوا
الطفل وحاجياته فيه، وثبتوه فوق المصطبة، كان بارزاً لا تدخله الماء, انصرفت
الخالة لترعى الأطفال الأربعة، أما الزوج بقي مع الأم المسكينة كانت تبدوا كأنه
تلفظ أنفاسها الأخيرة، بدا مخبولاً تماماً لا يدري ما يصدق أو يكذب. ذهب بها إلى
المشفى تاركاً الطفل الغريق في الصندوق.
في المشفى بدأت جراحة عاجلة للأم، ماذا سيفعلون بالرئتين؟! كانت دقائق
العفن تنتشر بسهولة وتعلق على السطح الرقيق
للرئتين، فارقت الحياة زوجته أيضاً، سمحوا له بالبقاء معها، بيّن له الطبيب
أنه لن يغلق جراح العملية، لأنه لا جدوى فقد فارقت الحياة، بكى قليلاً ثم بدا
ساهماً في شيء ما انهمك به، قبل أن يأخذوها للتحضير لجنازة اليوم التالي.
شيعوا جنازة الأم والطفل الذي كما أرادت أعادوه وصندوقه للبحر! بعد
اسبوع لا حزن يفوق هذه العائلة بقيت الخالة تعتني بهم والأب يروح جيئة وذهاباً لا
أحد يدري بما يشغله، تذكر أن ابنته لينا لم ترَ أمها وأخيها للمرة الأخيرة، قفز
أمامهم قائلاً تعالوا سنذهب لنزور أمكم وجواد! الأب، الأطفال الأربعة، والخالة،
كانوا مستغربين يسيرون خلفه وصلوا أخيراً للشاطئ استقلوا بعدها زورقاً إلى القاعدة
الإسمنتية التي تحمل رفات أخيه جواد، الصندوق الخشبي سهل الفتح، يشبه صندوق كنز
نسي صاحبه أن يذع عليه القفل، فتح الصندوق كان الفطر والنباتات الخضراء قد غزت قلب
الصندوق بشكل شبه كامل وغطت جسد الطفل، بجانبه كان بالإضافة لملابسه والحلوى
الخاصة به، خرقة بيضاء تلف شيئاً ما! جعلهم جميعاً ينظرون للطفل الصغير
"لماذا فعل هذا؟"، ثم بدأ يفك اللفة البيضاء كانت تحمل نسيح شبه متآكل
ويحوي بعض الأخضر، قال بصوت مسموع للجميع: هذه هي الرئتين الخاصة بأمكم، لم أشأ أن
تدفن بالقبر ففيهما تنفست هوائنا، حملهما وبدأ ينفخ فيهما، مثل بالونين متصلين
ببعض، حينها تأكدت الخالة أن الأب فقد عقله تماماً، كان الموقف سوريالي تماماً
بالنسبة للأطفال، بعد إصرار الخالة عادو للبيت، تقرر فيما بعد أن تبقى الطفلة مع
خالتها، التي ستأتي من وقت لآخر لتعتني بالأولاد الثلاثة وأبيهم.
مرت ثلاثة عقود على الحادثة...
تغير الكثير في تلك المدينة، أصبح الشاطئ مكان مزدحم بالسياح وهواة
التزلج على الماء، بعض الشباب المتهورون ركبوا مركبات مائية، عدة فتيات وشباب بدا
عليهم الحماس، اتفقوا أن الفائز هو من يصل للقاعدة الاسمنتية ويفتح الصندوق الخشبي
الذي يقع في عرض البحر أولاً!
كانت أسرعهم فتاة سماء مكتنزة، وصلت إلى القاعدة قفزت نحو الصندوق خوفاً من أن يلحقها
أحد أصدقائها، كان الصندوق مغلق بقوة بفعل الزمن والصدأ الذي طال حوافه المعدنية،
فتحته أخيراً مطلقة صيحة النصر، خرج المارد من القمقم! وقف من الصندوق شيء يكسوه
الأخضر المسود يشبه جسد طفل قصير لا يتجاوز خمس سنوات كما خمنت، قفز خارج الصندوق
دافعاً إياها نحو الماء، كان المشهد مهولاً دب الذعر في قلوب جميع من كان يقترب من
القاعدة الاسمنتية.
كان ينظر باستغراب للمكان، بدا طافياً فوق الماء يتحرك نحو الشاطئ
بسرعة، ترى لماذا ينظر الناس بهذا الشكل ويهربون؟ ناداهم قائلاً: لا تخافوا! لا
تخافوا من جواد! وصل الشاطئ، كانت الشرطة قد وصلت المكان
وبدأ الجميع يلاحق جواداً. كان لديه من الذكريات ما يذكره بالحي الذي
كان يسكن فيه ومكان بيته، فبدأ الرحلة عازماً الوصول للبيت بحثاً عن أمه.
في نفس الوقت الذي كان جواد يحاول الوصول إلي البيت، كان الشرطة تبحث
عن سر الصندوق، فأخبرتهم سيدة كانت تسكن قرب المكان القصة كاملة، حتى أن حديثها
تخلله البكاء: لو أنني بقيت مع الطفل يومها ما غرق في الماء، توصلت الشرطة فيما
بعد لمعرفة اسم عائلة الطفل الغريق، وصل كهل كبير السن، وثلاثة رجال هم أبناءه،
وبدأوا يبحثون في الشوارع. توقف جواد أمام متجر ألعاب كانت توجد الكثير من الأقنعة
الملونة، وكان هناك رجل يستعرض آلة تقوم بصنع الملابس المطرزة، سأله جواد: كيف
تعمل الآلة؟ أجاب الرجل محاولاً إنهاء الحوار مع الطفل المتسخ الغريب: هل ترغب
بقطعة مطرزة أستطيع أن أصنع واحدة كما تشــ... قاطعه جواد: لا لا، أريد أن أعرف كيف
تعمل الآلة فقط. رأى قريباً من البوابة سيدتين تشبهان صديقاته في الحضانة اقترب
قائلاً: هل أنتن منى ولبنى؟ أجبنه بالإيجاب فعرفهن بنفسه، واقترح أن يذهبوا جميعاً
للبيت، لكن منى بادر واعتذرت منه متعللة بمشاوير. حين ذهب في اتجاه الشارع العام،
همست بأذن لبنى منى: هذا الطفل الذي كان صديقنا هو ميت الآن كيف يمشي بيننا
ويتحدث؟!
أحس بخطوات تركض خلفه، فأسرع قدر الإمكان، كان يتعب كثيراً شعر أن
بإمكانه السير بخفة والطيران، لكن لا يعرف إلا المشي والركض كما كان يفعل مع
أطفال الحي، في طريقة صادفه رضيع يبكي ويبدوا أن أمه منشغلة بمحادثة والده، فناوله
لعبته التي سقطت من يده ما أسكت الطفل. مضى بطريقه راكضاً حتى وصل بعد جهد جهيد، انتظر
في البيت كثيراً بدا خائفاً من القادمين يبدوا عليهم الكبر وهو لا يذكر محمد أو
باسل بهذا العمر، شعروا بوجوده في البيت وبدو غير مبالين، تجرأ وتقدم سائلاً
إياهم: أين أمي؟ أريد أن أراها أنا ابنها جواد.
لم يفلح الانتظار بتهدئة جواد، حين صعد لسطح البيت الذي يتكون من طابق
واحد، شاهد أمه تسير بالشارع لكن معها طفل يبدوا أنه تعلم المشي حديثاً، قفز نحوها
من السطح بدا أنه أصبح يمتلك قدرات جديدة، هل أنتِ أمي؟ أشفقت السيدة عليه كان
يبدو متسخاً جداً حتى خيل إليها أنه وهم، أجابته أنها لا تملك طفلاً اسمه جواد،
لديها فقط طفل واحد اسمه نبيل هذا الذي يسير معها.
كان باب بيت أم نبيل مواجهاً تماماً لبيت جواد، نافذة عالية جانبية لم
يصعد أو يطير لينظر أو يرى، بعد أن أغلقت الباب، وإنما مشى نحو الحائط فعبر من خلالها،
شاهد السيدة أم نبيل تبدل ملابسها مغلقة باب غرفتها أمام نبيل الذي يبكي طالباً أمه
من خلف الباب، بقي متسمراً مكانه، لماذا لم تسمح لنبيل بالدخول هل هناك عيب أو سوء
في الأمر؟ حينها كان جواد غير مرئي تماماً، انتقل بخفة إلى زاوية الغرفة الأخرى
عابراً خلف الباب، يمد رأسه بين الحين والآخر ليشاهدها "ما زالت تبدل
ملابسها، حقاً تبدو كأمه" كانت تشعر بوجود شخص ما لكن تغالب نفسها وتنكر، علا
صياح وبكاء نبيل، شعر جواد بالغضب فهذا الطفل النزق تدعي أمه أنه طفلها، ونسيت
جواد ابنها تماماً، لكمه على وجهه فبدأ الطفل بالصراخ وخيط صغير من الدم نزل من
أنفه، كان بكاءه مروعاً فخرجت الأم شبه عارية لتجد طفلها ينزف من وجهه، أوقفته
قليلاً لترتدي قميصها، لكن هذه المرة ركله في خاصرته، صرخ الطفل هرعت إليه أمه
رافعة كنزته بدا تحتها بقعة زرقاء وأثر كدمة قوية!! جن جنونها ارتدت عباءتها من
جديد أسرعت نحو مستوصف الحي، ومن خلفها جواد.
سيبقى نبيل تحت المتابعة في المستشفى لحين تحسن حالته، في هذه الأثناء
كان أبو نبيل ينقل لسكان الحي تفاصيل مرض ابنه الغريب، وبعض الأحداث التي رافقته
في نفس اليوم، حاول محمد أن يتأكد من أبي نبيل أن طفلاً قاطع زوجته في الطريق
ظاناً إياها إمه، ربما بدأت الصورة تتضح.
استدعوا الخالة نائلة على عجل، كانت على علم كبير بالدين وربما هي من تستطيع
مساعدتهم في حل هذا اللغز الذي يتعلق بأخيهم الميت، وهي من شهدت وفاته وأختها قبل
ثلاثين عاماً، وقفت أمام البيت وحدها والجميع ينظر عبر الأزقة والشبابيك عمّا
ستسفر محاولاتها، بدأت تنادي بصوت عال، جواد يا بني أين أنت؟! أنا أعرف مكان أمك
إن أتيت الآن أدلك عليها..
في هذه الاثناء كان جواد غاضباً جداً في المشفى، كان الطفل المدلل
يأخذ كل الاهتمام، اقترب وهو يبدوا غير مرئي، وكان يقرص الطفل من قدميه، فيدب
بالصراخ من جديد، لا أحد في المشفى يعرف سبب بكاء الطفل، انتظر ساعات وساعات، حتى
ضج بالضجر وترك المشفى نحو بيته من جديد، فاجأه الناس الذين يقفون بين الأزقة
مثبتين انظارهم نحو باب منزلهم، هناك تقف عجوز تتكلم بصوت مرتفع، وآخر يقف جانباً
يتلفت ببلاهة باسماً بخفة عقل باحثاً عن شيء يتحرك.
انتبه! ان العجوز تقول "جواد"! كان يتغير ظهوره بين
اللامرئي أو الرمادي الفاتح أو الواقعي الأخضر المسود، اقترب منها وبدأ يظهر جلياً
بالتدريج: من أنت؟ ماذا تريدين؟ ، أخيراً هناك استجابة لقد تعبت من كثرة الوقوف
والمناداة، "اسمع يا حبيبي أنا خالتك، أستطيع أن أدلك على مكان أمك إن أطعتني
الآن، أنساق معها مطيعاً متسائلاً هل تكذب هذي السيدة أم أنها صادقة.
كان الحديث خلف البيت يدور بين الرجال، عن كيفية إرجاع هذا المسخ
لصندوقه في البحر! في البيت كان جواد مع الخالة تحدثه بالكثير عن أمه والطعام الذي
كانت امه توصي الخالة عليه، في الواقع بدأ يتذكر، شعر بحركة في الممر وجه حديثه
مهدداً: تعلمين يا خالة أنني الآن قوي، أستطيع أن أخرج من الجدار لو حاولتم
إمساكي، أريد أمي ولا أريد الأذية. كانت الخالة بارعة جداً في تهدئة الطفل أو
الشبح أو المسخ أياً كان.
في الأيام التالية، استطاعت أن تقنعه بمزيد من الانتظار، وهو يقنعها
بضرورة خروجه من البيت قليلاً، كان يخرج صباحاً ويعود عصراً ليقضي وقته معها، لا
يعرف أحد أين يذهب أو ماذا يفعل، حتى أنها كانت تشاهده طيفاً أبيضاً يخرج بالليل،
أرادت أن تعرف دون أن تعرض أحد آخر للخطر، ما زالت تريد أيضاً انتهاء هذا الكابوس
بعد أن نصحت أم نبيل بعدم العودة للبيت مؤقتاً هي وطفلها،
....
يتبع
إلى أين يذهب جواد، وكيف ستنتهي هذي المحنة الغريبة؟!