جلجامش يبكي أنكيدو |
ماذا لو تطور الإنسان
إلى الحد الذي يمكّنه بأن يصبح سيد الكون، هل يمكن أن نكون واثقين بأنه خلال هذي
العملية الكبيرة من التغير ستنتج اللغة كناتج طبيعي من شجرة الحضارة؟ حتى اليوم
يختلف العلماء على أصل اللغة وكيفية فهمها وإن كان بالإمكان الاعتماد على المتلقي
في إدراك المعنى المراد إيصاله، إلى علماء الإغريق الذين اختلفوا حول علاقة الصوت
بالإشارات المرمزة للّغة المكتوبة، حتى علاقة اللغة المنطوقة بالمكتوبة، والبحث
حول الأصل انطلاقا من البيضة والدجاجة، حواء أم آدم إلى الرمز أم المعنى.
أول نص قديم مكتوب "جلجامش
ملحمة الرافدين الخالدة" المكتوبة باللغة المسمارية على اثني عشر لوحاً
طينياً، الألواح التي وجدت في المكتبة الشخصية للملك الآشوري الملك آشوربانيبال عام
1853م، وظهرت أول ترجمة للملحمة بعيد سنوات من المسمارية إلى الانجليزية على يد
جورج سميث، ترجمات الملحمة توسعت إلى لغات عديدة ومختلفة، حيث أول من ترجمها إلى
العربية طه باقر، الملحمة تنتقل بنا تدرجياً من الحياة في أوروك وصراع الملك
جلجامش مع الآلهة بالذات عشتار، ثم مقتل صديقه انكيدوا الذي دفع بالملك الحزين
للخروج في رحلة البحث عن الخلود وعودته أخيراً إلى أوروك.
اختلفت الترجمات،
وظهرت أخطاء فادحة من المترجمين الأجانب الذين حاولوا ترجمة الملحمة وتقريب
الكلمات لعدم تناسقها مع السياق، أغلب من وقعوا بهذا الفخ هم الأوروبيون الذين
يعانون من افتقار المعرفة بالنسبة للثقافة والموروث الشرقي، نفس الخلل حصل في
ترجمة النصوص الفرعونية التي يسعى علماء اللغة والمترجمون إلى تصحيح مسارها
حالياً.
إذا ما بحثنا عن سر
اختلاف الترجمات، نرجع إلى النظام اللغوي ومشكلة الاعتباطية والقصدية التي
سنستعرضها بإسهاب، ربما يكون الحل الجديد وسيلة لتوحيد سبل
النصوص القديمة، أو إيجاد علاقات بين السابقة، أو مفاجآت لغوية أو تاريخية تنطوي
على الترجمات المعدلة للنصوص.
يمكننا فهم النص من
جانب لغوي وذلك بوجود الدلالات الكافية، الأمر الذي لا يخلوا من وجود بعض الإشكالات
خصوصاً لدى علماء اللغة، تتلخص النظرية اللغوية السائدة في إمكانية وجود تأويلات متعددة للنص الواحد،
حيث يقوم علم اللغة على اعتباطية الإشارة اللغوية التي تقدمها الدلالة، بمعنى أن المفردة لها دلالة
متغيرة اتفق عليها تبعاً لزمان ومكان ما، الذي يؤدي لاختلاف معنى المفردة الواحدة
بين زمان وآخر أو مكان وآخر.
يكمن الحل اللغوي
الجديد حسب عالم اللغة العراقي "عالم سبيط النيلي" باعتبار المفردة
تعاقب صوتي ذو دلالة أساسية عامة، بينما علم اللغة الحالي ينكر دلالات الأصوات،
يكمل النيلي بأنه اكتشف دلالات فيزيائية حركية للأصوات، من تجاربه استخرج دلالات
عامة ثابتة للمفردات وبهذا تسقط المترادفات والمجاز والاستعارة.
عند تطبيق الحل
اللغوي "الحل القصدي للغة" على النصوص المختلف عليها ظهرت مكتشفات جديدة، أما
النظرية الاعتباطية في الفهم اللغوي تقول على لسان فرديناند دو سوسير صاحب كتاب
علم اللغة (اللغة نظام لا يخضع لأي أساس منطقي علمي واضح) نفهم أن إدراك النص
يعتمد على المتلقي لا على المتحدث لذلك يموت القائل في نصوص كثيرة أو ينسب لمجهول،
وعند إلغاء المتكلم يظهر تأويل النصوص، لنتحدث قليلاً عن تأويل الكتب ومصادر
التشريع الدينية إذا نحن اعتمدنا على التأويل فستختلف التفسيرات وتتعدد وتتشتت
ونقع في مشكلة.
التناقض يحدث حينما
يصرح سوسير بنظرته للّغة أو تعريفه لعلم اللغة ثم يؤلف كتاب علم اللغة، مع الأخذ
بالنظر أن اللغة إن كانت "نظام غير منطقي" فإن أي نظام أياً كان يخضع
لحد أدنى من العلاقات المنطقية، بخلاف الحل الجديد الذي اكتشف الدلالات الفيزيائية
في الأصوات وساعد على تصحيح نصوص قديمة ونصوص العهد القديم والجديد وتأويلات دينية
أخرى بالإضافة إلى تصحيح المعاجم. نظرية عملية شاملة سقراط تحدث بها ولكن لم يستطع
البرهنة عليها في زمانه، تجدر الإشارة إلى أن النص الديني الحالي مثالاً عليه
الكتب السماوية وفي حال كانت النظرية السائدة القديمة صحيحة فكيف يمكن أن يحاسب
الخالق مخلوقاته على نصوص مبهمة قابلة لتأويلات عديدة ومتناقضة بل ويأخذ بهذي
النصوص حجة على الناس.
هناك فرق حين تترجم
نص باذخ الجمال ومكتنز اللغة من لغته الأم أو من لغة حديثة مترجمة، للأسف في أواخر
القرن التاسع عشر وحين ظهرت ترجمة جورج سميث، تسابق بعض العلماء والمهتمين على نقل
الترجمة إلى لغاتهم وليس نقل الملحمة، الأمر الذي تسبب في إشكالات في فهم الملحمة،
حيث تم استبدال كثير من الألفاظ والكلمات إلى كلمات مقاربة.
ظهرت كتب عديدة مختصة
بالملحمة منها ملحمة جلجامش لفراس السواح وللعراقي عالم سبيط النيلي كذلك طه باقر
المترجم الأصلي للملحمة إلى العربية، وكتاب جورج سميث بالإضافة للروسيان إ.م.
دياكونوف وي.س. ترافيمونوف وإصدارات قدرت بالعشرات أو مايزيد.
يوجد حالياً ثلاث نسخ
من الملحمة وهي نينوى، الحيثوية والبابلية، وهناك اختلافات بسيطة بينها، لكن
الثلاثة تعود لأزمنة مختلفة أحدثها نسخة نينوى التي وجدت في مكتبة الملك الآشوري
آشوربانيبال.
فيما يتعلق بالكتب
الصادرة في الملحمة المذكورة، ظهرت إصدارات مختلفة وأخرى متشابهة للملحمة هذا
الأمر يعتمد على طريقة الترجمة التي اتبعها المترجم أو العالم. بين ترجمة سميث
ودياكونوف هناك تقارب من حيث استخدام لألفاظ معينة وتغيير في المواضع بالنسبة
للأسطر والأبيات.
مثلاً يعقب النيلي
مستخدماً ترجمة باقر بأن الملحمة تذكر أن الملك جلجامش بثلث بشري وثلثاه إله، وحسب
الترجمة الصحيحة فالألوهية هنا جاءت صفة بمعنى أنه امتلك علماً وحكمة تقربه إلى
مستوى الإله حيث هو انسان طبيعي يمكن أن يصل لحالته الكثيرين ولم يكن كائناً
خارقاً كما يذكره الآخرون.
بذلك الترجمات
الجديدة تضع حلاً للتناقضات الكبيرة بين النسخ السابقة للملحمة، مثال آخر هو
الآلهة المتعددة في الملحمة التي لم تكن تبعاً لترجمة الحديثة سوى رموز استخدمها
الكاتب لإجراء حوار فلسفي عميق يظهر قيم المجتمع في ذلك المكان والزمان. أيضاً خطأ
فادح نلاحظه حين نرجع للترجمة البابلية والمصطلحات هو كلمة "لابينو"
البابلية التي تعني الأشجار الصخرية العظيمة والتي ترجمت إلى غابات الأرز وبالتالي
تم اختيار لبنان مكاناً لمعركة جلجامش مع خمبابا، في نفس النص في لوح آخر ذكرت
كلمة "تيستوم" والتي تعني غابة بالبابلية ما يعني أن الكاتب لم يقصد
مطلقاً باستخدام لفظة "لابينو" غابات الأرز بأي حال من الأحوال. في وصف
الملحمة للظواهر الطبيعية الخارقة يستخدم "يراقبون الليل والنهار" وهنا
اعتبرها المترجمون الأوربيون أنها آلهة خارقة متخصصة بالليل والنهار وهو يقصد
الإشعاعات والأجرام الكونية التي يراها الانسان البابلي ليل نهار، حتى دياكونوف
يتحدث عن ألفاظ مبهمة تعمد تجاوزها ولكن الحل الجديد لم يتجاوزها بل أثبت صحتها
وأن النص دونها تسقط قيمته الأدبية والمعنوية.
تبدأ الملحمة ب"
الذي رأى كل شيء" يفسره الباحثون على أنه كائن خارق ولكن هذا غير صحيح
بالمطلق لأن الذي "آتيناه من كل شيء سببا" هو الذي منح الأسباب والمعارف
والعلوم في الكون وهي صفات الملك الذي عاش وحرر أوروك "جلجامش".
"عشتار"
أعظم آلهة البابليين كما يقال، هي لفظة بابلية تعني "العيش المبتور"
ويرجع بعض العلماء أمثال النيلي بأنها رمز للحياة، لأن عشتار هي آلهة الحب ليلاً
والإخصاب والولادة والتكاثر صباحاً والحرب والعمل نهاراً والخصب في أغلب أوقات
السنة خاصة فصول الحصاد، تتحدث الملحمة عن لعنة عشتار التي تمسخ من يخدع بها
الكثيرين مثل الراعي والمزارع وغيرهم، حيث الراعي الذي اغتر بعشتار مسخ إلى ذئب
يسمن الخراف ليذبحها، وهنا قيمة فلسفية عميقة أسيئ فهمها والتعاطي معها، هذه ليست
خرافات أو أساطير وإنما قضايا ذات أهمية وليست وهمية.
الصراع مع عشتار يمثل
حسب الحل الجديد صراع جلجامش مع الحياة ولا سيما بعد وفاة صديقه أنكيدوا وقراره
الذهاب في رحلة للبحث عن الخلود حتى انتهى به المطاف رافضاً كل النعم التي تحاول
عشتار إغراءه بها.
حسب الترجمة القديمة
تضرب عشتار بعصا سحرية لتمسخ ضحاياها، وهذا تأويل واضح من المترجمين اللاحقين
أمثال سميث ودياكونوف وبعض آخرين.
في العقد الأخير يقود
الحل اللغوي الجديد العالم العراقي "عالم سبيط النيلي" الذي يتحدث عن
نظريته في كتاب "اللغة الموحدة" و "ملحمة جلجامش والنص
القرآني"، الحل الجديد يضع نهاية لكل الجدل القائم منذ مدة طويلة، وتتجنب
تقدير الأجزاء المخرومة من الألواح والتقدير الاعتباطي للكلمات المفقودة أو غير
المفهومة أو التي كما يرون لا تتماشى مع السياق، مثلا هناك تناقض بين العمود الأول
والثاني من الملحمة في اللوح الأول حيث الأول يمدح الملك جلجامش والثاني يذمه،
وحصل هذا اللغط بسبب تقدير الجزء المخروم الذي يعتقد بأنه يبدأ بالحديث حول آراء
المعارضين للملك جلجامش بذمه وليس الكاتب الذي يذمه، وإنما يمدحه من خلال ذم أعداءه،
كاتب الملحمة ليس مجنوناً ليأتي بهذا الكم الهائل من اللغة والصور والحوارات
ليتناقض مع نفس في لوح واحد، يبدأ بمدحه بالقوة الجسدية، المعرفة العلمية، الشجاعة
والعدل. الغريب أن العلماء يتجاهلون اللوح الأخير الذي يذكر تفاصيل الطوفان العظيم
بما يزيد عما ذكرته التوراة بصيغة المخاطب المفرد.
الذروة العظمى
للملحمة والتحويل الرهيب للوحش البري عدو الملك جلجامش إلى صديق، يعتبر أهم أحداث
الملحمة حيث يتجلى جمال أدبي باهر حيث تكشف المكيدة الكبرى التي تدبرها الحياة
وينقلب انكيدوا على كل القواعد والقوانين ويصاحب جلجامش في رحلته، إن الحياة
بمجملها ملحمة متكررة تتكرر منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد إلى اليوم، ما أشد حاجتنا
إلى الحل اللغوي الجديد الذي يسعى إلى الكثير من التصحيح والتجديد في التراث
العظيم الذي ورثناه.
يمكنكم الرجوع للكتب التالية:-
ملحمة جلجامش والنص
القرآني : عالم سبيط النيلي
اللغة الموحدة: عالم
سبيط النيلي.
عربات الآلهة : إريك
فون دانيكن.
مقتل جلجامش:
ترافيمونوف
ملحمة جلجامش:
دياكونوف
ملحمة الرافدين - جلجامش : فراس السواح
موسوعة تاريخ
الأديان: فراس السواح
ملحمة جلجامش: طه باقر الصدر