لكل منا في طفولته
تصورات عن عالم الكبار، قد تكون فقاعات صابونية، ما تلبث أن تنفجر في وجهك حين
تكبر، بعضها مرت أمامي الليلة، بالمناسبة هذي ليلة الثامن من إبريل في السنة
الرابعة عشر بعد الألفين، والساعة هي التاسعة المفضلة لي وخمس وأربعون دقيقة
مساءً.
حين كنت صغيرة أردت
أن أكبر لأنني كنت أظن أن للكبار في كل قرار وموقف جرئ عنيف حكمة كبيرة وتبين انهم
يتسرعون ويخطئون ويتعصبون لآراء ما أنزل الله بها من سلطان.
حين كنت صغيرة أردت
أن أصبح فتاة جامعية ناضجة لكي أتحدث بطلاقة المتعلمات وأتناقش برقي نادر وملفت،
ولكن تبين أن أغلب الأحاديث بينهن تتحدث إما عن الارتباط أو آخر أخبار الفن في
الساحة.
حين كنت صغيرة أردت
أن أكون فتاة ثانوية حساسة وذكية، وتبين أن فتيات الثانوية هن الأكثر حساسية واكتئاباً
واضطراباً على الكوكب.
حين كنت صغيرة أردت أن
أتخلص من النوم على الفرشة والدوار الهائل الذي أشعر به حين استيقظ، بسرير لكي
اشعر بالأبهة والفخر والاستقرار ولكن حين كبرت وجدت الأرض أكثر دفئاً من كل الأسرة.
حين كنت صغيرة كان
أكبر مخاوفي الشبح الأبيض الذي يأتي من اشعاع مصباح النيون، ومن لص غريب قد يأتي
للبيت ليلاً ويشاهد طفلة ما تزال مستيقظة ومستغرقة بالتفكير بشكله ولماذا يسرق ومن
أين أتى، ولماذا تظهر السرقة في هذ العالم.
حين كنت صغيرة كنت
أظن كل العالم ينحصر في حارتي والحارات المجاورة، وأن كل القصة تكمن في المهارة في
الاختباء وسرعة الركض حين نلعب المطارة، ولكن تبين أن الدنيا أكبر بكثير وأن هناك
صواريخ وآليات أفظع يمكن أن تطاردك وقد تسبقك قبل الهرب إلى زقاق ما، وحتى يمكنها
أن توقع الجدران فوق رأسك.
حين كنت صغيرة كنت
أصاب بالرعب إن علم أحد بمعرفتي لبعض الألفاظ النابية الجديدة، وتبين أنني أصبحت
جبانة كبيرة بعد سنوات.
حين كنت صغيرة كنت
أسعد كثيرا بتبادل الزيارات بين العائلات، وتبين لاحقاً ان كل الأمور هي زيارات
ترد وترد بالمقابل وتستمر الدائرة الاجتماعية.
حين كنت صغيرة كنت
أشعر بالفخر حين يقول كبير بالسن عن العادات والتقاليد، وعن مقامات الناس حسب
عائلاتهم وجنسهم، ولكن تبين أنهم كانوا يطبقون نظاماً عنصرياً فيه طحن وظلم
للآخرين.
حين كنت صغيرة كنت
أشعر بالانتماء الفكري والقومي والعائلي والمدني حين اسمع أن الآخرون سيئون والأفضل
تجنبهم، ولكن تبين لاحقاً أنهم سيئون لأنهم مختلفون فقط.
حين كنت صغيرة كنت
أظن الفتيات البالغات المختبئات خلف ستائر البيوت يملكن هيبة كبيرة وبهاء بمكانهم
مختفيات عن أعين الجميع، ولا يخرجن للشارع، ويهربن حين يأتي ذكر للمكان، ولكن تبين
أنهن محبوسات يشعرن بظلم وأسى كبير وكان هذا سر صمتهن الدائم.
حين كنت صغيرة كنت
أظن السجن مكاناً عظيماً وكنت أظن أن أم الأسير "قريبنا" تشعر بالحظ لأن
الجميع يشير إليها بالبنان هذي أم الأسير، وكنت استغرب جداً الدمعة التي تمسحها
بطرف شالها الأبيض، لطالما ظننتها دموع الفرح والفخر، وتبين أن أم الأسير تقاسي
لوعة بحجم عشر سماوات طباقاً، ولا يشعر بها إلاها.
حين كنت صغيرة كنت
أظن أن في السجن أبطالاً يستعبدون العدو، ولم يشر لي أحد يوماً عن التعذيب وغياب
الانسانية هناك، وعلمت لاحقاً أنني كنت طفلة محظوظة بهذا وإلا لحرمت من النوم
أياماً كثيرة، وحين كبرت أصبح الأمر يؤرقني وأخاف جدا بل واشعر بالتقصير والخجل
حين أحاول أن أظن أن بحديثي عنهم افعل شيئاً من الواجب.
حين كنت صغيرة كنت
أظن المهرجانات الوطنية هي بطولات تدك دولة المحتل بكل دبة قدم أثناء الدبكة، ولكن
تبين أننا نرقص فوق الأطلال، وأن الضحكات والشعارات ما هي إلا عويل وبكاء دون دموع
لأنها جفت.
حين كنت صغيرة كنت
اظن بزيادة عدد شهداء حارتنا عن العشرة لا بد وأن يتحرر شيء من الأرض فالقتلى في
سبيل الوطن زادوا كثيرا، ولكن مرت السنوات ورحل معهم الآلاف وما زلت محتارة هل
يبصقون علينا من اعلى أم يهتفون أم يبكون، هل يقولون عنا تعساء، أم يحاولون العودة
والأبواب موصدة!
حين كنت صغيرة كنت
أظن أن الذين يركبون الدبابات ذوي أنياب ومخالب وأنهم من مكان فيه متوحشون قد
يأكلون لحوم البشر، ولكن تبين أنهم بشر مثلنا مثلهم وأن ورطتنا ورطتهم اولئك
المدنيين والأطفال والمراهقين الذين ولدو في هذي الأرض التي لم تكن يوماً
لأجدادهم، ولم يخبرهم أحد عن حالنا في المخيم، ولم يخبرهم أحد كيف يقفز سقف
الاسبست حين يلقون قنابلهم الدفاعية، ولا كيف يموت الأطفال عندنا، ولا يعرفون لمن
تلك البيوت التي يسكنونها، هل تعرف ابنة ذلك الجندي الذي صوب رشاشة إلى رأسي حين
كان عمري اربع سنوات أن أباها فعل هذا بطفلة مثلها!
حين كنت صغيرة كنت
أشعر بوجود تشوه خلقي فيّ، حين يطالبونني بألا البس الفساتين كثيراً لأنني بنت
ويجب أن تتعلم الاحتشام باكراً وعدم لفت الانتباه، وكنت اشعر بالرضا لأنهم لا
يعلقون حين أكون حافية ومتسخة وأتصرف بسوء كالأولاد تماماً، وتبين حين كبرت أن لدى
الكثيرين تشوه فكري ونفسي.
حين كنت صغيرة كنت أظن
الكبار دائماً محقون ويستحقون الطاعة ولو كان لنا وجهة نظر في الأمر، وتبين لاحقاً
انهم مثلنا تماماً قد يتسرعون وقد يخطئون وقد يندمون ولكن الفرق أنهم أقوى منّا ولديهم
سلطة علينا، ولا يمكن أن يتعاقبوا ويرغموا على تغيير سلوك ما إلا بطرقهم.
حين كنت صغيرة كنت
أظن أن جدتي ستبقى هنا للأبد وستصد كل من يحاول أن يضايقني وسأمثل دوري دائماً
ببراعة واختبئ خلفها وأبقى صامتة بعيون منكسرة ونظرة ضعيفة بريئة، ولكن قبل أن
أكبر رحلت جدتي للسماء في موكب ملكي مهيب لأنها كانت من أطيب أهل الأرض.
حين كنت صغيرة كنت
أظن الأمهات مرتاحات من ألم القلق على الأطفال خصوصاً إن كبروا وحين تنتهي من
مواجهة الطفولة والمراهقة والبلوغ وثم الامومة، لا بد انها مرتاحة جداً ولا هم
يشغلها، وكنت ألوم جدتي على هواجسها واسئلتها التي لا تنتهي على ابنائها بالغربة،
والقلق والوجد والدموع الخجولة، وتبين نظرياً أن معها حق.
حين كنت صغيرة كنت
أظن أن السلام أمر مهم وليس من الضروري أن افتعل مشاجرة من اجل الحصول على دور
لمرة واحدة على المراجيح في الروضة، وكنت أوزانها بأشياء أخرى فالحصول على السلام
وراحة البال افضل كثيرا من الخروج بغم ولعب لوحدك مقابل أن تحجز مربع الحجلة هذا
المساء دون طعم الانتصار والمشاركة، وتبين أن الصراع مهم وأن مكانك يجب أن تأخذه،
وأن دور الكثير من الأشياء أن تحول بينك وبين مكانك وحقك.
حين كنت صغيرة كنت في
صراع دائم بين رغبتي في أن أكبر لأحصل على امتيازات كثيرة منها التقدير وزيادة
المصروف والكلمة المسموعة بين الكبار، وبين أن أبقى صغيرة لأنني ما إن أكبر سيأتي
ملكان يسجلان كل ما اقول لكي أحاسب لاحقاً، وقد احرق في النار بسبب فعلة ما، وأنا
صغيرة لن أحاسب على شيء حتى ضرب بنت الجيران، والغش في الواجب في الحضانة، واخفاء
العصا الخاصة بالمعلمة، وقطع أزهار بيت المديرة، كان كل هذا دافعاً لأنتهي من كل
الأفعال الخاطئة التي يمكن ارتكابها، لكن تبين لاحقاً أن لكل عمر أعمال خاطئة قد
تكون لذيذة وممتعة احياناً، وأن ليس كل الكبار يهتمون بالملاكين الذين يراقبان،
حتى الشيوخ الذين كانوا يهددون ويتوعدون، لم يكونوا يخافون فعلا كما كنت اموت رعبا
من فكرة جهنم، وإنما لكي يجعلوا الناس يطيعونهم كما قال أحدهم: بالخوف فالخوف سر
الطاعة!
حين كنت صغيرة كنت
أسمع لدرجة قد أعد الأنفاس في كل جملة يقولها أحد الكبار، لكي استطيع محاكاة
اسلوبه وطريقة تفكيره لاحقاً، ولكن حين افعل هذا لم يكن أحد يلتفت لي مع أنني لم
اكن اريد أن احصل على الثناء، فقط أريد أن يسمعون وأبدي رأيي فأنا لدي القدرة على التفكير
مثلهم واغطي جوانب اخرى ربما لم يتطرقوا لها، لكن لم يسمع أو يرى أحد، وحين كبرت
عرفت أنني لم يكن ينقصني شيء، إنما هم كان ينقصهم الكثير.
حين كنت صغيرة كنت
أشعر بغضب عارم وغيرة شديدة حين أرى غيري يتباهى بلوحة الموناليزا، ما يجعلني
حينها اقفز نحو ألواني ودفتر الرسم، محاولة بجهد أن أفعل مثلها، وتبين لاحقاً أن
ليوناردو دافنشي شاهد الويلات السود في حياته وعمل الكثير ليتعلم وتجاوز آلاف
الأميال، لكي يرسم الجيوكندا / الموناليزا.
حين كنت صغيرة كنت
أتشبث بالحياة بكل الأشكال، لأنني أردت أن افعل كما يفعل الآخرون في حياتهم، فهناك
من وصل لمئة عام، ومن العدل أن أعيش التجربة كاملة، وحين كبرت رويداً رويداً أصبحت
الحياة أبخس ثمناً ولكن ما زال تقبل فكرة الموت الآن صعب جداً جداً.
ربما كنت محظوظة
وسمعت بحكمة مفادها أن "ليس كل ما يلمع ذهباً" في صغري، ولكن رغم ذلك وفي
كل الاحوال ما كانت لتفيد معرفتي، لأنني وبعد أن كبرت عرفت ما تعني، وهذا البعض من
البحر الفائض..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق